فصل: (سورة الشعراء: الآيات 7- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين} وأيّ شيء ربّ العالمين الذي تزعم أنّك رسوله إليَّ؟.
{قَالَ} موسى عليه السلام {رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} إنّه خلقها عن الكلبي.
وقال أهل المعاني: إن كنتم موقنين أي ما تعاينونه كما تعاينونه فكذلك فأيقنوا أنّ ربّنا هو ربّ السموات والأرض.
{قَالَ} فرعون {لِمَنْ حَوْلَهُ} من أشراف قومه، قال ابن عباس: وكانوا خمسمائة رجل عليهم الأسورة محيلا لقوم موسى معجبًا لقومه {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} فقال موسى مفهمًا لهم وملزمًا للحجة عليهم {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين قَالَ} فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} يتكلّم بكلام لا يعقله ولا يعرف صحته.
فقال موسى {رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} فقال فرعون حين لزمته الحجّة وانقطع عن الجواب تكبّرًا عن الحق وتماديًا في الغي {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} المحبوسين.
قال الكلبي: وكان سجنه أشدّ من القتل؛ لأنه كان يأخذ الرجل إذا سجنه فيطرحه في مكان وحدهُ فردًا لا يسمع ولا يبصر فيه شيئًا، يهوى به في الأرض.
فقال له موسى حين توعدهُ بالسجن {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} يبيّن صدق قولي، ومعنى الآية: أتفعل ذلك إنْ أتيتك بحجّة بيّنة، وإنما قال ذلك موسى لأن من أخلاق الناس السكون الى الإنصاف والإجابة الى الحق بعد البيان.
فقال له فرعون {فَأْتِ بِهِ} فإنّا لن نسجنك حينئذ {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} بيّن ظاهر أمرهُ، فقال: وهل غير هذا؟ {وَنَزَعَ} موسى {يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}.
فقال فرعون {لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السحرة لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} وهو يوم الزينة.
قال ابن عباس: وافق ذلك يوم السبت في أول يوم من السنة وهو يوم النيروز.
قال ابن زيد: وكان اجتماعهم للميقات بالإسكندرية، ويقال: بلغ ذَنَب الحيّة من وراء البُحيرة يومئذ.
{وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ} تنظرون الى ما يفعل الفريقان ولمن تكون الغلبة لموسى أو للسحرة؟ {لَعَلَّنَا} لكي {نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين} موسى، قيل: إنما قالوا ذلك على طريق الاستهزاء وأرادوا بالسحرة موسى وهارون وقومهما.
{فَلَمَّا جَاءَ السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ المقربين قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ} لا ضرر {إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ أَن} لأن {كُنَّآ أَوَّلَ المؤمنين} من أهل زماننا. اهـ.

.قال الزمخشري:

سورة الشعراء:
مكية، إلا قوله وَالشُّعَراءُ. إلى آخر السورة وهي مائتان وسبع وعشرون آية. وفي رواية: وست وعشرون آية، نزلت بعد الواقعة.
بسم الله الرحمن الرحيم.

.[سورة الشعراء: الآيات 1- 2]:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
{طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2)}.
{طسم} بتفخيم الألف وإمالتها، وإظهار النون وإدغامها {الْكِتابِ الْمُبِينِ} الظاهر إعجازه، وصحة أنه من عند اللّه، والمراد به السورة أو القرآن. والمعنى: آيات هذا المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين.

.[سورة الشعراء: آية 3]:

{لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)}.
البخع: أن يبلغ بالذبح البخاع بالباء، وهو عرق مستبطن الفقار، وذلك أقصى حدّ الذبح، ولعل للإشفاق، يعنى: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إسلام قومك {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} لئلا يؤمنوا، أو لامتناع إيمانهم، أو خيفة أن لا يؤمنوا. وعن قتادة رضي اللّه عنه: باخع نفسك على الإضافة.

.[سورة الشعراء: آية 4]:

{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)}.
أراد: آية ملجئة إلى الإيمان قاصرة عليه. {فَظَلَّتْ} معطوف على الجزاء الذي هو ننزل، لأنه لو قيل: أنزلنا، لكان صحيحا. ونظيره: فأصدّق وأكن، كأنه قيل: أصدق. وقد قرئ: لو شئنا لأنزلنا. وقرئ: فتظل أعناقهم. فإن قلت: كيف صح مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق قلت: أصل الكلام: فظلوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع، وترك الكلام على أصله، كقوله: ذهبت أهل اليمامة، كأنّ الأهل غير مذكور. أو لما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل: خاضعين، كقوله تعالى: {لِي ساجِدِينَ} وقيل أعناق الناس: رؤساؤهم ومقدّموهم، شبهوا بالأعناق كما قيل لهم هم الرءوس والنواصي والصدور. قال:
في محفل من نواصي النّاس مشهود

وقيل: جماعات الناس. يقال: جاءنا عنق من الناس لفوج منهم. وقرئ: فظلت أعناقهم لها خاضعة. وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما: نزلت هذه الآية فينا وفي بنى أمية. قال: ستكون لنا عليهم الدولة، فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة، ويلحقهم هوان بعد عزة.

.[سورة الشعراء: الآيات 5- 6]:

{وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6)}.
أى: وما يجدد لهم اللّه بوحيه موعظة وتذكيرا، إلا جددوا إعراضا عنه وكفرا به.
فإن قلت: كيف خولف بين الألفاظ والغرض واحد، وهي الإعراض والتكذيب والاستهزاء؟ قلت: إنما خولف بينها لاختلاف الأغراض، كأنه قيل. حين أعرضوا عن الذكر فقد كذبوا به، وحين كذبوا به فقد خف عندهم قدره وصار عرضة للاستهزاء والسخرية، لأنّ من كان قابلا للحق مقبلا عليه، كان مصدقا به لا محالة ولم يظنّ به التكذيب. ومن كان مصدقا به، كان موقرا له {فَسَيَأْتِيهِمْ} وعيد لهم وإنذار بأنهم سيعلمون إذا مسهم عذاب اللّه يوم بدر أو يوم القيامة ما الشيء الذي كانوا يستهزءون به وهو القرآن، وسيأتيهم أنباؤه وأحواله التي كانت خافية عليهم.

.[سورة الشعراء: الآيات 7- 9]:

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)}.
وصف الزوج وهو الصنف من النبات بالكرم، والكريم: صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه، يقال: وجه كريم، إذا رضى في حسنه وجماله، وكتاب كريم: مرضىّ في معانيه وفوائده، وقال:
حتّي يشقّ الصّفوف من كرمه

أى: من كونه مرضيا في شجاعته وبأسه، والنبات الكريم: المرضى فيما يتعلق به من المنافع {إِنَّ فِي} إنبات تلك الأصناف {لَآيَةً} على أن منبتها قادر على إحياء الموتى، وقد علم اللّه أن أكثرهم مطبوع على قلوبهم، غير مرجوّ إيمانهم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} في انتقامه من الكفرة {الرَّحِيمُ} لمن تاب وآمن وعمل صالحا. فإن قلت: ما معنى الجمع بين كم وكل، ولو قيل كم أنبتنا فيها من زوج كريم؟ قلت: قد دلّ {كُلِّ} على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، وكَمْ على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة، فهذا معنى الجمع بينهما، وبه نبه على كمال قدرته. فإن قلت: فما معنى وصف الزوج بالكريم؟ قلت: يحتمل معنيين:
أحدهما: أن النبات على نوعين: نافع وضارّ، فذكر كثرة ما أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع، وخلى ذكر الضارّ.
والثاني: أن يعم جميع النبات نافعة وضارّه، ويصفهما جميعا بالكرم وينبه على أنه ما أنبت شيئا إلا وفيه فائدة، لأنّ الحكيم لا يفعل فعلا إلا لغرض صحيح ولحكمة بالغة، وإن غفل عنها الغافلون، ولم يتوصل إلى معرفتها العاقلون. فإن قلت: فحين ذكر الأزواج ودلّ عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة، وكانت بحيث لا يحصيها إلا عالم الغيب، كيف قال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وهلا قال: آيات؟ قلت: فيه وجهان: أن يكون ذلك مشارا به إلى مصدر أنبتنا، فكأنه قال: إن في الإنبات لآية أي آية. وأن يراد: أن في كل واحدة من تلك الأزواج لآية.
وقد سبقت لهذا الوجه نظائر.

.[سورة الشعراء: الآيات: 10- 11]:

{وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11)}.
سجل عليهم بالظلم بأن قدّم القوم الظالمين، ثم عطفهم عليهم عطف البيان، كأن معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون وكأنهما عبارتان تعتقبان على مؤدى واحد: إن شاء ذاكرهم عبر عنهم بالقوم الظالمين، وإن شاء عبر بقوم فرعون. وقد استحقوا هذا الاسم من جهتين: من جهة ظلمهم أنفسهم بالكفر وشرارتهم، ومن جهة ظلمهم لبنى إسرائيل باستعبادهم لهم. قرئ: {ألا يتقون} بكسر النون، بمعنى: ألا يتقوننى فحذفت النون لاجتماع النونين، والياء للاكتفاء بالكسرة. فإن قلت: بم تعلق قوله: {ألا يتقون}؟ قلت: هو كلام مستأنف أتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار، والتسجيل عليهم بالظلم، تعجيبا لموسى من حالهم التي شنعت في الظلم والعسف، ومن أمنهم العواقب وقله خوفهم وحذرهم من أيام اللّه. ويحتمل أن يكون لا يَتَّقُونَ حالا من الضمير في الظالمين، أي: يظلمون غير متقين اللّه وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال.
وأمّا من قرأ: ألا تتقون. على الخطاب. فعلى طريقة الالتفات إليهم، وجبههم، وضرب وجوههم بالإنكار، والغضب عليهم، كما ترى من يشكو من ركب جناية إلى بعض أخصائه والجاني حاضر، فإذا اندفع في الشكاية وحرّ مزاجه وحمى غضبه قطع مباثة صاحبه وأقبل على الجاني يونجه ويعنف يه ويقول له: ألم تتق اللّه، ألم تستح من الناس. فإن قلت: فما فائدة هذا الالتفات، والخطاب مع موسى عليه الصلاة والسلام في وقت المناجاة، والملتفت إليهم غيب لا يشعرون؟ قلت: إجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم، لأنه مبلغه ومنهيه وناشره بين الناس، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى، وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين، تدبرا لها واعتبارا بموردها. وفي {أَلا يَتَّقُونَ} بالياء وكسر النون وجه آخر، وهو أن يكون المعنى: ألا يا ناس اتقون، كقوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا}.

.[سورة الشعراء: الآيات: 12- 13]:

{قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13)}.
ويضيق وينطلق، بالرفع لأنهما معطوفان على خبر إنّ، وبالنصب لعطفهما على صلة أن.
والفرق بينهما في المعنى: أنّ الرفع يفيد أنّ فيه ثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان، والنصب على أنّ خوفه متعلق بهذه الثلاثة. فإن قلت: في النصب تعليق الخوف بالأمور الثلاثة، وفي جملتها نفى انطلاق اللسان. وحقيقة الخوف إنما هي غم يلحق الإنسان لأمر سيقع، وذلك كان واقعا، فكيف جاز تعليق الخوف به؟ قلت: قد علق الخوف بتكذيبهم وبما يحصل له بسببه من ضيق الصدر، والحبسة في اللسان زائدة على ما كان به، على أنّ تلك الحبسة التي كانت به قد زالت بدعوته. وقيل: بقيت منها بقية يسيرة.
فإن قلت: اعتذارك هذا يردّه الرفع، لأنّ المعنى: إنى خائف ضيق الصدر غير منطلق اللسان. قلت: يجوز أن يكون هذا قبل الدعوة واستجابتها، ويجوز أن يريد القدر اليسير الذي بقي به، ويجوز أن لا يكون مع حل العقدة من لسانه من الفصحاء المصاقع الذين أوتوا سلاطة الألسنة وبسطة المقال، وهرون كان بتلك الصفة، فأراد أن يقرن به. ويدل عليه قوله تعالى {وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسانًا} ومعنى {فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ}: أرسل إليه جبرائيل، واجعله نبيا، وآزرنى به، واشدد به عضدي، وهذا كلام مختصر. وقد بسطه في غير هذا الموضع، وقد أحسن في الاختصار حيث قال: {فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ} فجاء بما يتضمن معنى الاستنباء، ومثله في تقصير الطويلة والحسن قوله تعالى {فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيرًا} حيث اقتصر على ذكر طرفى القصة أوّلها وآخرها، وهما الإنذار والتدمير، ودلّ بذكرهما على ما هو الغرض من القصة الطويلة كلها، وهو أنهم قوم كذبوا بآيات اللّه، فأراد اللّه إلزام الحجة عليهم، فبعث إليهم رسولين فكذبوهما، فأهلكهم. فإن قلت: كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يأمره اللّه بأمر فلا يتقبله بسمع وطاعة من غير توقف وتشبث بعلل، وقد علم أن اللّه من ورائه؟ قلت: قد امتثل وتقبل، ولكنه التمس من ربه أن بعضده بأخيه حتى يتعاونا على تنفيذ أمره وتبليغ رسالته. فمهد قبل التماسه عذره فيما التمسه، ثم التمس بعد ذلك، وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر: ليس بتوقف في امتثال الأمر، ولا بتعلل فيه، وكفى بطلب العون دليلا على التقبل لا على التعلل.